يد الكريم

 

الإنسان أسير الإحسان، والنفوس الطيبة تقدر لأهل الإحسان إحسانها

قرأت كلمة ، تقول:

“إن شر ما في النفس البشرية هي أنها تعتاد الفضل من صاحب الفضل فلا تعود تراه فضلاً “

وهذا يقع في قلة من الناس، ترى  الإحسان المسدى إليها محض استحقاق لا تقدره ولا تشكره،

والرسول ﷺ يقول: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ويقول أيضاً: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، فالشكر والعرفان من حسن الخلق.

لكن ما يؤذي المحسن ليس مقابلة إحسانه بالاعتياد بقدر ما تؤذيه الإساءة.

فما الذي يجعل الإنسان يسيء لمن أحسن إليه؟!

يعزو ابن حزم هذا إلى طبيعة النفس، يقول:

 (إن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم).

هي علل داخلية تحكم الأخلاق والسلوك ويزداد المرء تردّيا إذا انعدم إحساسه بعلته وظن أنه في عافية، أو إذا تجاهل وجودها عمداً .

وقد قيل:

المعروف إلى الكرام يعقب خيراً والمعروف إلى اللئام يعقب شراً، ومثل ذلك مثل المطر يشرب منه الصداف فيعقب لؤلؤاً وتشرب منه الأفاعي فتعقب سماً.

وفي كل حال لا ينبغي للمحسن وصاحب المعروف أن يحصر عطاءه في أهل المكارم بل يبذل ويعطي ما وسعه دون أن يرتقب شيئاً على إحسانه، وعليه أن يعي في قرارته أن الذي مكنه من مدّ يد الإحسان هو الله “والله ذو الفضل” سبحانه، فإذا تشربت نفسه هذا المعنى تساوى عنده الشكر والنكران وصرف قصده لله بصفاء نية، وهذا ما يحفظ له سلامة الصدر وهناء البال.

من الضروري تفحص دواخل النفس عند الأخذ والعطاء لعلاج ما ينبغي علاجه.

منذ أربعين سنة وهو يعد الشاي والقهوة بيده ليسقي المارين من زوار الحرم المدني.

أتأمل في حياة هذا الرجل الطيب الذي ضجت لخبر وفاته وسائل التواصل بالدعاء والذكر الحسن،وهي حياة جديرة بالتأمل، يعرفه مئات بل آلاف من الناس يقصدون مكانه ويحييهم بود وبشاشة، يجلسون إليه يحادثونه ثم يودعونه ليفسحوا لغيرهم وقد أخذوا حصتهم من الكوب الساخن يمضون ويأتي غيرهم وهكذا طيلة هذه السنوات وهذا الرجل ملازم لهذا العمل البسيط – فيما يبدو لنا – والله يعلم قدر مشقته.

أتأمل ديمومة عمله وقدرته على الاستمرار كل يوم ولسنوات، ولا أظنه هو أو غيره يُعان على مثل هذه الأعمال المتصلة إلا  بتوفيق الله وصدق الطوية ولا نزكي على الله أحداً.

فالإنسان قد يوفق لعمل فيه خير وإحسان لكن العبرة في الثبات على هذا العمل وملازمته، ومجاهدة النفس فيه حتى يغدو جزءاً أساسياً من حياته لا ينفك عنه، رغم الظروف وتقلب المزاج، وهنا تحديدا عند تقلب الأمزجة ينكشف الصدق .

فالنية الصادقة لا تخضع للمزاج، بل تحمل الجسد حملاً لاستيفاء صدق نواياه ليتنعم بعد ذلك في “يوم ينفع الصادقين صدقهم”.

 

نحن إذا ما أحببنا أمرًا فرغنا له حيزًا كبيرًا من الوقت والاهتمام والمعاهدة، وجعلنا له أولوية فوق كل الأولويات، هكذا نستجيب إلى ما يمليه علينا الشعور ، وهذه المشاعر بدورها تحرك العقل وتستحثه بالفكر والتدبير كي يشبع هذه الحاجة الشعورية فيصدر الفكرة تلو الأخرى لتحقيق هذا الأمر ويتمه.

العاطفة إذا اتقدت حركت الفكر التي يستحث الفعل ومن شاء أن يقدم على عمل خير يطلبه، وحالت دونه العزائم، فليحرك عاطفته تجاهه فإن لحظات الانفعال ترسم اتجاه السلوك،

ولو تأملنا كثير من هداية الخلق والاستقامة، لوجدنا أن المحرك الأول الذي دفعهم لسلوك هذا الطريق بتوفيق الله هو موقف أو حدث أشعل جذوة الإيمان في قلوبهم، وكان الدافع لما بعده من سلوك.

وقد قيل:

( العاطفة جذوة في القلب، إذا ما أصابتها نفخة تأججت نارًا )

والجذوة تتأجج عن طريق منافذ القلب، ألا وهما السمع والبصر،  لما يلقي الإنسان سمعه لأحسن الناس قولا وخبرا ، ويرمي ببصره لما جرى ويجري في الكون ولمن حوله من الخلق ويعايش الأحداث وتجارب الناس بتفكر وتأمل، فإن هذا يترك شيء بداخله ولابد.

 

وينبغي هنا أن لا نعول على الشعور وحده  للوصول إلى البغية، فالاستغراق في العاطفة دون ضابط يهوي بالمرء إلى مزالق كثيرة، ولربما دفع إلى سلوك مخالف للمبادئ والقيم، فتكون العاطفة حجاب تحول بينه وبين إدراك الحقائق والمآلات.

لهذا نحن بحاجة إلى وعي بحركة الشعور لنوجهه بالاتجاه الذي نريد، فهو بمثابة الشرارة الأولى التي لا تلبث أن تنطفئ إذا لم يسوّر بأسوار العلم الراسخ ضد الرياح.

فإن ما نرجو أن نحققه من سلوك ونأمل أن يكون عادة مستدامة لابد له من علم متين يثبته وإلا كان سلوكا عابرًا سرعان ما ينقضي إذا خبت وهج الجذوة.