كل ألم، وإن بدا أول الأمر جارفا لا يُحتمل، فإن الأيام تبدي لنا أن التعايش معه ممكن، بل وقد يألفه القلب حتى لا يعود يستنكره كما في البدايات.

فحين يُبتلى المرء بمصاب، يبلغ الألم النفسي ذروته في البداية، ثم يتقلص مع مرور الوقت، وربما يتلاشى.

وما يحدد مدى شدته واستمراره، ليس حجم المصيبة، إنما طريقة استقبالها.

إن اللحظة الأولى لاستقبال البلاء، هي الموضع الذي تُكسر فيه شوكة الألم، أو تقوى حدته، فمن أُعين فيها على الصبر، خف المصاب عليه، وكان ما بعده أهون.

ولهذا جاء في الحديث الشريف، قول النبي ﷺ:

“إنما الصبر عند الصدمة الأولى”

والمؤمن، عند أول تفجر للمشاعر، يستدفع الجزع بالاسترجاع، ليسكن قلبه.
ويفزع كما كان يفزع رسول الله ﷺ إلى مواطن الطمأنينة:
الصلاة، دعاء الكرب، دعاء يونس، الاستغفار..
وكل ذلك مما يقوي القلب، ويقلص وقع المصاب على النفس.

ثم ينظر إلى مصيبته، صغيرها وكبيرها، بميزان الآخرة، لا بميزان العاجلة، وقد قال أحد السلف:

“إذا نزلت بي مصيبة، حمدت الله أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أعظم مما هي عليه”

وهذا ما ينبغي أن نستحضره دائمًا، وأن نذكر به أنفسنا ومن حولنا.

والحمد لله على وعده الكريم، الذي أخبر به نبيه ﷺ:

“ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها،إلا كفر الله بها من خطاياه.”

 

فما من ألم إلا ويحمل في طياته رحمة خفية.

يد الإحسان

 

الإنسان أسير الإحسان، والنفوس الطيبة تحفظ لأهلها جميلهم.

قرأت قولاً يُلفت إلى صنف من الناس:

“إن شر ما في النفس البشرية هي أنها تعتاد الفضل من صاحب الفضل فلا تعود تراه فضلاً “

وهذا يقع في قلة من الناس، ترى  الإحسان المسدى إليها محض استحقاق لا تقدره ولا تشكره، والنبي ﷺ يقول: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ويقول أيضاً: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه).

فالشكر والعرفان من حسن الخلق، ومن شيم النفوس السوية، غير أن ما يؤلم المحسن حقاً ليس اعتياد الناس على إحسانه، بل أن يقابل بالإساءة بعده.

فما الذي يدفع إنساناً للإساءة إلى من أحسن إليه؟!

يعزو ابن حزم هذا إلى طبيعة النفس، يقول:

 (إن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم).

هي علل داخلية تحكم الأخلاق والسلوك، ويزداد المرء تردّيا إن انعدم شعوره بعلته، وظن نفسه في عافية، أو  تجاهل وجودها عمداً .

وقد قيل:

المعروف إلى الكرام يعقب خيراً والمعروف إلى اللئام يعقب شراً، ومثل ذلك مثل المطر يشرب منه الصداف فيعقب لؤلؤاً وتشرب منه الأفاعي فتعقب سماً.

وفي كل حال، لا ينبغي للمحسن أن يحصر عطاءه في أهل الفضل وحدهم، بل يبذل ويعطي ما وسعه دون أن يرتقب من الناس شيئاً، فالله هو الذي مكنه من مد يد الإحسان، وهو ذو الفضل العظيم.

فإذا تشرب قلبه هذا المعنى، استوى عنده الشكر والنكران، وصرف قصده لله خالصاً، وهذا ما يحفظ له سلامة الصدر وهناء البال.

لا بد من تفحص دواخل النفس عند الأخذ والعطاء، فما أحوج المرء إلى إصلاح ما لا يطلع عليه إلا الله.

منذ أربعين سنة، وهو يمد يده بالقهوة والشاي لزوار الحرم النبوي، يصبها بنفسه، يبتسم، يُنصت، ثم يودع… ويبدأ من جديد.

أتأمل في حياة هذا الرجل الطيب، الذي ضجت لخبر وفاته وسائل التواصل بالدعاء والذكر الحسن، حياة جديرة بالتأمل..

آلاف من الوجوه عرفته، مروا به، تفيؤوا ظلال كرمه،ثم مضوا وهو باق كما هو، كأنما نذر عمره لهذا العمل.

وهكذا كان على مدى سنوات ملازماً لعمل بسيط فيما يبدو لنا، والله وحده يعلم قدر مشقته.

أتأمل هذا الثبات، وهذه الديمومة التي لا يطيقها المزاج المتقلب، ولا يقدر عليها إلا قلب صادق.

قلب تواطأ فيه الفعل مع النية، فاستقامت له الخطى كل يوم، لا تكل ولا تمل، ولا أظنه – هو أو غيره – يُعان على مثل هذا إلا بتوفيق الله، ثم صدق الطوية، ولا نزكي على الله أحدًا.

كثير من يبدأ، وقليل من يثبت..

 

النية الصادقة لا تخضع للمزاج، بل تجر الجسد جراً، ليستوفي ما عزم عليه، حتى ينعم بعدها في..

“يوم ينفع الصادقين صدقهم”.