في بعض الأيام، تشعر بالإرهاق قبل أن تشرع في أي شيء، وكأن مجرد التفكير في ما ينبغي فعله يستنزفك أكثر من الفعل نفسه.

تتثاقل لا لأن المهام عسيرة، بل لأنك استهلكت طاقتك في تصوّرها، واستباق مشقّتها، وتخيل عثراتها قبل أن تقع.

كثير من الأعمال لا تُرهقنا حين نؤديها، بل حين نُطيل التفكير في كيفيتها: نُفكّر في تفاصيلها، وفي الوقت الذي ستأخذه، وفي العقبات التي قد تصادفنا، فتغدو ثقيلة في الخيال، مع أنها يسيرة في الواقع.

وقد يُرهق الإنسان من التخطيط الذهني أكثر مما يُرهقه الإنجاز نفسه، لأن العقل حين يُشغل بالاحتمالات والمآلات والسيناريوهات، يستهلك طاقته قبل أن يخطو خطوة واحدة.

وهكذا… لا يكون التعب من العمل، بل من الدوران حوله، ومن شدّ الحبال الخفية بين الحماسة والتردد.

بينما الحقيقة أن كثيرًا من الأعمال، لو أُعطيت وقتها بهدوء، ومضينا فيها دون هذا العبء الذهني، لتمّت بسلاسة، وربما بسرور.

فالمشكلة في الغالب ليست في حجم العمل، بل في التردّد حوله، في أننا نُطيل الوقوف على العتبة، ونستهلك أنفسنا قبل دخول الباب.

ولهذا، فالخطوة الحقيقية ليست في الإنجاز فقط، بل في كسر طوق التردد، وتحرير العمل من أسره الذهني.

وما أكثر ما يُنجز حين نكفّ عن التفكير المفرط… ونبدأ.

اقرأ مقال العودة الهادئة

 

كيف تصنع العاطفة أول خطوة؟

حين نُحبّ أمرًا بصدق، نُفرغ له من وقتنا ما لا نُفرغه لغيره، ونتعاهده على مرّ الأيام بلا تكلّف، ونمنحه حيّزًا واسعًا من الاهتمام والرعاية.
هكذا تستجيب النفس لما تمليه عليها عاطفتها، فتتحرك المشاعر الصادقة، وتستحث الفكر، وتُولّد الفكرة تلو الأخرى في سبيل تحقيق ما نحبّ.

فالعاطفة إذا اشتعلت، حرّكت الفكر، والفكر يحرّك السلوك.
ومن أراد أن ينهض إلى عملٍ نافع، ثم وجد في نفسه تثاقلًا، فليُشعل الشعور نحوه، فإن لحظة الانفعال قد ترسم اتّجاهًا جديدًا في حياته.
وليس ذلك بمجرّد تنظير، بل هو ما تشهد به البدايات:
كثير من الهدايات كانت شرارتها الأولى لحظةً، أو مشهدًا، أو موقفًا أيقظ القلب، وأوقد فيه جذوة الإيمان، فكان ما بعدها امتدادًا لتلك اللحظة، وأثرًا لتلك النار المباركة.

وقد قيل: “العاطفة جذوة في القلب، إذا ما أصابتها نفخة تأججت نارًا.”

وهذه الجذوة لا تُولد من فراغ، بل تُستثار عبر منافذ القلب: السمع والبصر.
حين يُلقي الإنسان سمعه للموعظة، ويرمي ببصره على أحوال الناس، ويتأمل ويصغي بتفكر، فإن هذا يترك في القلب أثرًا لا يُمحى، وقد يكون هو مفتاح التغير.

لكن على أهمية هذه الشرارة، ينبغي ألا نغفل عن طبيعتها:
فالعاطفة سريعة الاشتعال، لكنها أيضًا سريعة الانطفاء إن تُركت بلا ضابط.
إن لم تُحَط بسياجٍ من العلم، وضبط النفس، والرؤية الواضحة، فقد تجرّ صاحبها إلى سلوك يخالف المبادئ، أو تهوي به إلى قرارات عجولة لا تدوم.

لهذا، نحن بحاجة إلى وعي بحركة الشعور: كيف يُولد، كيف يُوجَّه، وكيف يُترجم إلى عمل راشد.
فما نرجو تحقيقه من سلوك نافع، أو ما نأمل أن نغرسه من عادة مستدامة، لا يُبنى على الوهج وحده، بل على علمٍ يثبّت، وبصيرةٍ تضيء الطريق، وقرارٍ واعٍ يحفظ الاتجاه.

فالعاطفة إذًا: بذرة البداية،
لكنها لا تُثمر حتى تُسقى بعلم، وتُثبت بعادة، وتُحاط بصبر.